منتدى ملتقى أبناء السودان بأروبا
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

معانات ايمان. والوهم الخرافي (بلجيكا)

اذهب الى الأسفل

معانات ايمان.  والوهم الخرافي (بلجيكا) Empty معانات ايمان. والوهم الخرافي (بلجيكا)

مُساهمة  khalid الخميس سبتمبر 02, 2010 5:55 pm




إيمان محمد حسين
__________________________

قيمة الإنسان تأتى من عمق وصعوبة تجاربه .. و مدى استفادته منها .. ولكلٍ مِنّا تجربة بطعمها المتفرد .. و حوادثها المتغيرة .. فكلما كثرت التجارب تنوع الطعم .. و توسعت الحديقة .. وكلما تغيرت الأحداث جاءت القوالب غير الآخرين .. وسرد هذه الأحداث يفيد الآخرين حتى تضاف إلي تجاربهم دون أن يعانوا معاناة الآخرين.



سأحكيكم قصتي.. بصدق وتجرد .. ولكني أطلب منكم أن تتجردوا أولاً من ذلك المعنى الإنساني الشفيف الذي يسمى الشفقة أو العطف ، أو ضعوه جانباً قليلاً ، فهنا نحتاج أن نتابع لنتعلم.. فلا أطلب منكم شفقة .. أطلب منكم الاستفادة من تجربتي .. فهي حياتي اليومية تآلفت معها.. فصارت جزءا من حياتي، بل كل حياتي .. لم أعرف غيرها سنين عددا.. ولا أعرف كيف سأعيش بدونها ولا غيرها.. لكني أدرك تماماً أنِّي بهذا الأمر قوية و أعيش حياتي ككل فرد ، غير أنّ بعض الأوقات برنامج حياتي مختلف عن الآخرين .. فأنا أقضى نصف نهاري في المستشفيات.. لست متفردة في هذا المرض ولكني جعلت هذا المرض جزءا من حياتي اليومية وتعايشت معه كرفيق الزمن فانا قد ابتليت، (والمؤمن مصاب)، بأي مقياس للحياة و بكل معيار لأنواع المصائب قد كانت مصيبتي أن أصاب بسرطان الثدي ، و أعيش معه .

إصابتي ليست مصيبة .. هي قدري، ولكن ما يحُز في النفس هو وجودي مع ثلاثة أطفال في بلاد بعيدة مختلفة قوانين حياتها عن عادات ومنهاج بلادي.. في ظروف عيشها و معيشتنا فيها مختلف جدا .. أفادني من ناحية علاجية .. و لكن يزيد آلامي أن إيقاع يومي صار مختلف أيضاً.. مما يجعل هذه الأسرة تعيش ظرف مختلف. فهي تعيش معي حرب على عدو مجهول المصدر .. مجهول أسلحة حربه و مجهول نقاط ضعفه.. فالحرب تكتيك .. وكانت استراجيتى معه هي التحصن ضده .. حتى أعرف إجابة على أسلحته أو أفضل الدفاعات ضده.. و أن لا تؤثر حربي ضده سلباً على من هم حولي ..

علمت من طول الحرب ضده أن أول خطوة في استراجية الحرب أن ( أعرف عدوك) ..

فبدأت البحث في كل كتاب و شبكة وكل جُحر و حَجًر .. وحِجر .. عن كل ما يخص هذا المرض. فما هو السرطان ؟

كيف يمكن التعايش معه ؟

والعلاج منه !!! وآثار العلاج منه .......

يعلم الجميع أن مصاب السرطان في السودان، يُجهّز له الكفن وهو يتلقى العلاج..

و قد تبدأ سرطان الحرب النفسية - التي هي أصعب من سرطان الجسد - أمام المريض أو خلفه .. في عيونهم أو دموعهم أو مفرداتهم .. " حرام يا يمه كِمِلت من العضمة التسند الحيل " ..." شفتي الشعر !! ولاّ الشعر ..وووب علي .. ولا شعرة واحدة في رأسها ما في" . . وتبدأ أنت في التناقص و التآكل " ." وتموت قبل يومك " وربما تتوفر لك إمكانية السفر للعلاج بالخارج .. حينها ، ربما يكون قد كتب لك أن تعيش عمرك .. من جديد .. .........................



البداية.. رحلة تبدأ بحلم وتنتهي بواقع.. ..



كنت قد أكملت دراسة دبلوم القانون في لبنان .. و قد انتهت إقامتي كطالبة دراسات .. و طلبت منا السلطات اللبنانية المغادرة فوراً .. كان معي زوجي و طفلاي .. يحزمون أمرهم وحقائبهم للسفر للسودان .. كنت كمن لا يأبه ، في ظل ذلك النظام الذي أنشب مخالبه على كل ما هو جميل .. فتردى كل قائم حتى صارت مهنة القانون مهنة ممتهنة ومهانة .. فلأحلم ببلد آمن ، يحترم إنسانيتي حتى يقضي الله أمرا ..



- الحلم والإشارة:

من يصدق ؟ لقد حلمت ذاك اليوم أنى أسافر إلى أوربا عن طريق تركيا .. إذ أنه الطريق الوحيد لأوربا للمهاجرين حينها. رأيتني في الحلم أبذل جهدا جبارا حتى أصل الي هناك .. صحوت وأخبرت زوجي بحلمي فضحك قائلا :"أنت مجنونة " ..".. بطلي التخاريف بتاعتك دي " ..

و للمصادفة وحتى تكتمل القدر دورته حضر صديق زوجي ليودعنا لأنه اختار أن يسافر إلى أوربا عن " طريق الموت". فقلت له مباشرة .. دون تردد "سأسافر معك .."

رد على قائلا يا بنت الناس .. أنا لا اضمن طريقي .. و هذه مسئولية إضافية ..ولن أتحمل مسئوليتك .."

قلت له " لقد حزمت أمري منذ الحلم وسأجعله حقيقة .. هو ليس حلما .. هو إشارة .." والله يحفظني و يحفظك حتى نصل..

حاول كثيرا إقناعي بأني أقرب إلى السفر عن طريق الفيزا و قد قدمت طلبا لزيارة باريس و قدمت طلبت التأشيرة والنتيجة في ديسمبر.. كيف لي أن انتظر ؟ ومن يسليني بالصبر. وكيف لى ذلك الإشارة قد جاءتني اليوم... جميعهم حاولوا إقناعى بأن أتحلى بالصبر ..ولكني اكتسيت بالإشارة واكتفيت بها ..

لما كان الأمر كما أردت .. كان زوجي هو مشجعى و هو الذي دفعني .. هذا الإنسان رائع و محبا .. هل كان دافعه الخوف والحب أولا و الثقة فينى و إيمانه بقراراتي ثانيا ..

و هكذا قررنا السفر .. و قلت لرفقاء الدرب .. أنا جاهزة .. و اتفقنا مع مهربين .. بالسفر عن طريق سوريا ثم تركيا ثم اليونان أو إيطاليا ..

قضينا أيامنا الأخيرة كأننا ذاهبان لنزهة و سنلتقي وأحيانا كأننا سنفترق العمر كله ..

وجاءت ساعة التنفيذ .. علينا أن لا نحمل أوراقا ثبوتية فقط بعض المال والزاد والعزيمة ..

و بدأت الرحلة الي الحدود مع سوريا بسيارة ( BMW ) . ثم دخلنا إلى سوريا على ظهر الخيل بالسير داخل نهر صغير وأحيانا على شاطئيه .. أخذتنا السيارة إلى جبال الأناضول .. اسم سمعته في حصة الجغرافيا ، حفظته لوقع حروفه .. ولكني للحظة ما كنت أظنني سأمر عليها سيرا على الأقدام مع مرشد لا يعرف من العربية إلا كلمة ( يلا) ليحثنا على المشي .. ساعة من السير السريع ثم والاستراحة في مخابئ معروفة لمدة عشرة دقائق ثم مواصلة السير .. شطبت مفردات من قاموسنا .. هي عطشان. . تعبت .. انتظروني .. الإرهاق.. جرحت .. " .. خفف عنا ألم الرحلة بعض النكات والتهكم بذلك ذلك الخلط في اللغة بين التركية والعربية .. ولغة الإشارة المشتركة حتى .. في الخامسة صباحا .. إلى الحدود السورية التركية ..

وصلنا بيت أحد المهربين الأتراك، حيث مكثنا حتى المساء.. وجدنا المنزل ممتلئا بالهاربين مثلنا إلى عوالم مجهولة. سودانيون ، مصريون عراقيون وأحباش و فلبينيون و من سيريلانكا يرحلون هربا من الفقر والساسة الفاسدون والقتلة . يرحلون لمستقبل مجهول أفضل من حاضر آسن . كنا ستين فردا أو يزيد. أيها العالم الأول جاءتك جحافل العالم الثالث..

من هنا .. في تركيا تغير الأمر .. كنا كسياح .. السفر بالحافلة المكيّفة إلى اسطنبول .. ثم إلى البحر .. واتصلت على زوجي .. ليدفع ..

وهنا على أن أشرح آليات الضمان. الضمان هو أنك كل مرحلة تصل يدفع الممول في بلدك مبلغا ، تتصل و يطمئن عليك وعلى وصولك ، فيذهب "للوكالة" ويدفع المرحلة القادمة .. منتهى الدقة التنظيم. وزوجي كان هو من يدفع ثمن مغامرتي..

وصلنا الى انطاكية و من ثم ذهبنا إلى بحر ايجة .. ووجدنا المركب التي ستقلنا إلى اليونان ..

لما رأيت الزورق .. أجفل قلبي هلعا ، خفت من الزورق .. أصابني شعور مفاجئ بالخوف والتردد . قلت في نفسي " يا بنت .. تابعت حلمك والإشارة فوصلت سالمة .. اذن تابعي حدسك ولا تركبي هذا الزورق" .. كان زورق صيد تركي عادى سيسلمنا إلى زورق صيد يوناني .. ليقلنا إلى اليونان وعندما تكون هناك تكون أصعب المراحل قد انقضت .. كان يجب أنم نبقى داخل القبو فى مركب الصيد وفى عرض البحر أو فى جزيرة ما يتم التبادل بين الزوارق .. .كذا كنت أظن .. داخل المركب كان يجب أن نبقى داخل صناديق الأسماك الكبيرة أو في القبو ..

رفيقتي العراقية بأطفالها رفضت السفر أيضا .. صعد إلى المركب 9 سودانيون و 3 أثيوبيات و اثنان من الأفغان و 9 آخرين من جنسيات مختلفة ..

انتظرنا المركب التالية ولكن بعد يومين سمعنا بغرق المركب ونجاة اثنين من السودانيين و الأفغان وسيرلانكية وغرق البقية بما فيهم طاقم المركب .. و لم تخرج الجثث من داخل صناديق الصيد ، وكأنها بيرل هاربر، الفرق أنّ هؤلاء ماتوا "ساى سمبلة .."

هنا كانت نقطة تحول .. أواصل السفر .. أم الرجوع ؟ ..

ما أصعب السفر و أخطر الرحلة وما أحلى الرجوع إليه .. و ما أجمل الحلم ..

و كان هذا العناد الذي يحرك عقلي والدافع المحرك للسفر و كل هذا المشوار ..

طلبت مقابلة الرأس المدير المدبر لعملية الترحيل لهذه العملية .

لا أحد يقابل المدير .. قالوا لى

ولكن إصراري و ضعف موقفهم بعد غرق المركب سهّل لي مقابلته، فالتقيت به..شرحت له أن هذه مغامرة لم نتفق عليها ولن أركب زورقا إلا و فيه كل ضمانات السلامة ..

قال لي: يمكنك الرجوع .. قلت له " لا بل أريد أن أواصل الرحلة.. لكن بمركب جديد و أن يكون ذلك قبل حلول الشتاء ".. فالشتاء ممطر وقارص البرد وخطر في رحلة التهريب.. و توصلنا إلى أن هناك زورقا جديدا سوف يكتمل بناءه و لضمان وصولنا واستمرار عملية التهريب. و فعلا تم بناء مركب جديد ..

وبدأت مرحلة ثانية ..



مزيد من الوعثاء .. كثير من الأحمال ..



كأنما غرق الزورق .. و فقدي لرفاق السفر و موتهم بهذه الطريقة البشعة .. ثم رجوعي مرة أخرى إلى اسطنبول ..كأن كل هذه إشارات و دلائل للعودة و ترك فكرة السفر .... وزاد الطينة بِلّة أن قد شعرت بغثيان أعرفه تماماً ..و تعرفه كل النساء .. فقد علمت أنّي حامل وقد أودع زوجي في أحشائي رفيق سفر .. بضعة منه ترافقني و بضع منه في قلبي و مضغة في أحشائي.. كأنه يذكرني به ..

هذا الجنين الجديد جعلني أفكر في مستقبل أفضل لأبنائي. والآن تزداد المسئولية ..

وأنا في ترددي هذا جاءني أن المركب الجديدة قد أعدت ، فحسمت أمري على مواصلة الرحلة ، فسافرت ومعي اثنان من الأتراك إلى جزيرة ( متالينى) وهى جزيرة متصارع عليها بين الأتراك واليونانيين و يسكنها فقط كبار السن وكلابهم ..وعند وصولي هناك تبينت ما أنا فيه .. فد كنت الشامة على خد أبيض . فوجود أي شخص غريب يكون معروفا، دعك من امرأة سمراء تسحب أطفالها.. في جزيرة محاطة تماما بالحرس والجنود والماء.. فلا سبيل إلي الخروج منها إلا بالطرق القانونية.. قلت إذن ما دام الأمر كذلك فنلقى في جوفنا لقيمات و لننتظر الفرج أو الحيلة .

ذهبنا إلى مطعم ماكدونالد و أكلنا حد الشبع .. شبع لا ندرى ماذا بعده .. ثم بدأنا في التسلل في الطرقات لنصل إلى السفينة ولكن صادفنا رجل شرطة.. وأوقفنا .. لحسن الحظ كانت اللغة الانجليزية هي لغة التواصل ..أخذنا معه إلي مركز الشرطة. وهناك ذكرت لهم أنى مسافرة من جيبوتي إلى أثينا وأنزلتني السفينة هنا وأخبروني أن هذه ايطالي" .. قالوا لي لقد خدعوك فأنت في ( متالينى).. وأثينا تبعد 19 ساعة من هنا. فلابد أن تذهبي إلى رئاسة الشرطة ( The Centre) فوجودك هنا غير شرعي" و شعرت بتعاطف منهم وعلمت أنني أول امرأة تهاجر عن هذا الطريق..

صادف ذلك اليوم عيد ميلادي ... بنتي " اليسار" أحضرت جاتوه واحتفلنا مع حرس الحدود .. ثم أخذوني إلى معسكر مقفول حيث وجدت مائتين و خمسة وثلاثين شخصا بينهم سبعة سودانيين.. و أنا المرأة الوحيدة بينهم.

في الصبح ومن آثار السفر والتعب .. أصبت بحالة إغماء كامل، فتم نقلي إلى المستشفى حيث تبين أنني أعانى من فقر دم حاد.. و أقرب معمل لفحص الدم كان يبعد ثماني عشرة ساعة..

لما علم عمدة المدينة بوجود امرأة فى المعسكر جاء لزيارته وطلب مقابلتي ، ومن النقاش علم أني أدرس القانون وكان هو أيضا من خريجي القانون فكان ذلك دهشة له ..

و بعد أسبوع من التنقل بين المستشفى والمعسكر جاءت النتيجة ..

" يا مدام أنت مصابة بفقر دم حاد ..و ربما مصابة بمرض بلازما الدم .. وهو خطر على الجنين .. فلابد من عملية إجهاض" .. .. هكذا علمت بمرضي أو قل أمراضي و معها .. أنى سأفقد جنيني .. أحدى أقوى علاقاتي بزوجي في ساعات وحدتي .. وافقت مرغمة .. هذا جنيني و تميمتي من زوجي .. ولكن لابد مما لابد منه بد . ثلاث مرات يدخلونني إلى العملية ولكن طبيب المنطقة يرفض إجراء العملية.. فالإجهاض ممنوع هناك .. بأمر الكنيسة .. وهم متشددون كنسيا ..



سبحان مغير الأحوال ..



قررت السلطات نقلى إلى أثينا لمقابلة أخصائي .. يا للأقدار .. فكأن ما كنت أحسبه عائقا للوصول إلي أثينا يتحول سببا لدخولها .. و هذه المرة سافرت راكبة شرعية ( فلنقل شبه شرعية ..فأنا لا أحمل جواز سفر ).. بل و على متن سفينة من ثلاث طبقات .. بها حوض سباحة ومراقص و كل الفخامة السياحية.. وتذكرت بداية الرحلة بالأرجل وثم على ظهور الجياد و الحافلات و تهريبي كبضاعة على مركب الصيد ..

ووصلت إلى أثينا .. لا أحمل جواز سفر.. لكنى أحمل هم الرحلة وطفلة في يدي و أخرى على حجري و جنين في أحشائي وبلازما مريضة في دمى و هموم أثقل من هؤلاء جميعا..

التقيت بسودانيين في اليونان عرضوا على خدماتهم ، ولكن عند موافقتي يظهر الوجه القبيح لبعض سوداني المهجر .. علي أن أدفع مبالغ كبيرة دون ضمانات.. وقلت لهم .." الحاضر يكلّم الغايب .. إيمان تقول لكم .. لا أريد مساعدة من أحد منكم.. فلا أظن المشوار القادم سيكون أسوأ من الفائت"

اتصلت بزوجي وأخبرته بعنواني الجديد فأرسل لي جواز سفري بالبريد السريع .. ويا للمفاجأة ..

عليه تأشيرة فيزا إلى باريس .. يبدو أن الأمور تتحسن .. فلم أعد مهاجرة غير شرعية .. و بدأت أفكر أين سيطيب لي المقام .. ؟ لا يهم الآن على أن أرتاح قليلا وأبدأ باقي المشوار و أستعين بخارطة الأمل لبقية الرحلة. ..

أيها الغرب الأوربي .. جاءتك إيمان تحمل حلمها و أطفالها و جنينها و تعبها.. فأين فيك المستقر .. وأين البيت والوطن الجديد.. فإيمان لا تذهب إلى منفى فكل الأرض أرض الله .. أنا آتية .. أنا قادمة ..

نحن قادمون ..



أوربا .. الخيار والاختيار.. ختام الرحلة و بداية المقام ..

بدأت رحلتي داخل أوربا و هذه المرة أحمل فيزا الدخول إلي فرنسا .. سأركب ما أستطيع .. و أسافر على متن القطارات جاسة أمد رجلي ما استطعت ..أمشى في الطرقات وآكل في الأسواق على عينك يا شرطي أوربا.. كان خيار السفر على القطار.. ففي القطار فسحة للتفكير و معرفة بالبلاد وأهلها ..وقلة في المصروفات .. ربما لا تتاح لي رؤية هذه الأماكن مرة أخرى .. و ركوب القطار بالنسبة لرحلتي السابقة يعد رفاهية .

قلت فلأجرب اللجوء إلى إيطاليا .. كل من التقيت بهم من أغراب و معارف لم يشجعوني على البقاء فيها ، فهي لن تكون بديلا لوطن .. وستكون المعاناة أكبر .. والحصول على اللجوء ليس سهلا .. قضيت بعضا الزمان فيها أدرس بنفسي الوضع هناك ، فكان قراري أن أرحل إلى فرنسا، فلتكن لي وطنا، ليس بديلا بل وطن ثاني وفى رأسي ما زال السؤال يدور " هل في الأرض منفى؟"

فرنسا كإيطاليا ليست الوطن الذي تربي فيه أطفالك و تأمن عليهم من الشارع .. وليست البلد السهل ولا التي تفتح ذراعيها بسهولة لتحضن الأغراب والمهاجرين. وأنا أريد أن أبقى لفترة أراها ستطول ..

بدأت ألتقي المهاجرين وأسمع منهم تجاربهم، تجمعت لدى صورة كاملة عن تلك البلاد، الجميع اتفق على أن أفضل بلاد للجوء هما ألمانيا أو بلجيكا ..

اخترت بلجيكا بل صدقا سأقول أن ظروفي قد اختارت بلجيكا. فتحركت بالقطار إلى بلجيكا .. تطبيقا للمثل " وقف حمار الشيخ .. في عقبة السفر "



وطن ثان .. وبداية أخرى

ها أنا في شهري الثامن من الحمل .. يا إلهى ..هل انقضت ثمانية أشهر و أنا أحمل جنينا و تحملني الرحلة و أحمل أبنائي ..!!!

يا إلهي هل مر كل هذا الوقت وأنا لم استقر بعد ..؟ متى يستقر بى المقام وينتهي البحث عن الأفضل ؟

وقررت اللجوء إلى بلجيكا، و هناك قدمت إلي مكاتب الهجرة والجنسية وهي مفوضية شؤون اللاجئين ......

فأرسلنا لمعسكر للاجئين على الحدود الهولندية البلجيكية، واللغة في تلك المنطقة هي الهولندية .. وعند وصولي إلى منطقة " جينك" وجدت أنه مركز يديره الهلال الأحمر ، وذلك لأني أحتاج للعلاج وأطفالي يحتاجون للرعاية .

بعد أسبوع من وصولي عاودتني حالة الإغماء الكاملة ، ولوجود طبيب مناوب و بعد مراجعته لتاريخ مرضى ، أمر بفحص للدم و كانت النتيجة الطبيعية ..فقر دم حاد .. وعلى أن ألجأ لعلاج مكثف لمدة أسبوع .. وخاصة بعد ظهور إلتهاب حاد في الدم لم تعرف أسبابه ..

و انتهى الأمر بحقنة أسبوعية .. و طبعا لأنها عملية صعبة و ربما مضرة ..

و عشت تجاهلا من المشرفين الاجتماعيين و تجاهلا صحيا .. و دون ضمان صحي هنا لا ضمان للحياة أو العيش اللائق .. و تضاعفت معاناتي عندما وضعت طفلي الصغير ..

وفى ليلة أصبت بتعرق ليلى بشكل مقلق فذهبت للطبيب والذي قال لي بكل بساطة " إنه من لون البشرة فهي تجذب حرارة الشمس " فرددت عليه " شمس .. عند منتصف الليل ؟" فبهت الذي لا يعلم ...

عندما تعافيت قليلا ناقشتهم بأني فعلا من أفريقيا .. لكني لست بجاهلة .و أوضحت لهم أن نظرة الأبيض للأسود بأنه جاهل ومريض وفقير لا تنطبق علي حتى لو كانت حقيقة . كانت هذه " شمّة العافية" ففي وجودي في الأيام القليلة السابقة عرفت كيف يستغل المساعد الاجتماعي "البلجيكي" المهاجرين من شرق أوروبا ، فلا إجابة على سؤال، و لا حسن توجيه .. و كل المعلومات أما مخفية أو غير صحيحة ..

ومن المفارقات أنهم كانوا يضحكون من أنى أرضع وأن ثديي مليئان بالحليب .. فكانوا يرددون أن بهما حليب زائد فقلت لهم " الحمد لله وسأرضع ابني لعامين ولكنى لست بقرة "

ثم تم توزيعي إلي إقليم الفلامش و هم قوم يتحدثون الهولندية فقط و فيهم عنصريون و لا يقبلون أي لون غير الأبيض ، دعك من أني السمراء الوحيدة .. هي منطقة يبتعد عنها حتى البلجيكيون السمر. وأسوأ ما تعرضت له هو أنّ كل مصاريف العلاج كانت من مصروفي الشخصي مما أخّر اكتشافي لحقيقة مرضى.. لأكتشف بعد ستة أشهر من التنقل الدائم و عدم الاستقرار و تجاهل وإهمال من الأطباء و ظنهم وعدم اهتمامهم فينا " مواطني العالم الثالث ".

بعد مدة من الانتظار و نتيجة لثورة انفعال كبيرة وحادة مني في وجههم، تم تحويلي إلى طبيب مختص في النساء والتوليد و أول ما فعله أن قام بالفحص على ثديي ..

نتيجة الفحص كانت سرطان في مراحل متأخرة " و على أن أكون في المستشفى بعد 48 ساعة.

كان همي أن أجد من يرعى أطفالي، في بلاد لا أعرف فيها أحد ، فسرت في الشوارع هائمة .. أبكي .. كل خطوة لا معنى لها .. لا أعرف أين تقود ؟ و لا أين المستقر ؟ لم أكن أفكر في العلاج .. بل في أطفالي .. زوجي الغائب ..

و خاصة ما قاله الطبيب .. أن العملية وإزالة الثدي ليست المشكلة بل العلاج..



مرض السرطان المعايشة. والتعايش ..

كنت وحيدة .. سلمت أطفالي لجارتنا البلجيكية ، و ذهبت للجلسة.. هي لم تقبل أن أذهب إلي الجلسة وحدي .. فسلمت أطفالي لجليسة أطفال تثق بها ورافقتني إلى الجلسة . جارتي هذه ذكرتني بأهلنا فالإنسانية في الإنسان في كل مكان ..وأينما وجد .. .. هل فوق ذلك قول ..

أجريت لي عملية إزالة الثدي مع إزالة الغدد اللمفاوية تحت الإبطين .. و زال الألم أو المرض ولكن تبقى معالجة معاناة الجسد.. و إزالة آثار المرض أو محاربته.. وفى أول يوم بعد عطلة رأس السنة في السنة الخامسة من بعد الألفين ...كان ذلك تحديدا في الثالث من مارس في السنة الخمسة بعد الألفين .. بدأت مرحلة جلسات العلاج بالمزيج الكيمائي..



وذهبت إلى الجلسة .. كان في بالى أنه تشبه جلسات العلاج النفساني و جلسات محلول الجلوكوز ودِرِب الدم. ترقد و وخزة ثم دقائق و تنصرف .. قال تنصرف قال !!!

لم أكن أعلم أن الألم يصاحب العلاج يوماً إلا في علاج السرطان.. حين آخذ الجرعة الكيميائية يبدأ الألم . و قبل أن أبدأ الجرعات كانت الأورام مجرد آلام تدغدغك عندما تضغط عليها.. ولكن عندما يصلها المزيج الكيميائي تتقد ناراً لا مثيل لها..

ولأصف لك الألم .. عليك أن تعمل الخيال والإحساس جيدا : تخيل أجمل إحساس ونشوة إنتابتك يوما فى حياتك أو حلمت به يوما في هذا الكون وهذه الحياة ..مثلا : أن تكون في بقعة جميلة معك من تحب و حولك كل نعيم و تمارس كل ما لذ لك وطاب.. قمة النشوى .. لك جناحان ..تطير بهما مرفرفا للغمام و تنزل مصطحبا زخات المطر لأرض عشباء .. " هل تعرف هذا الشعور؟ ..هل تستطيع ترجمته ؟ أليس هذا فوق الوصف ..بلى .. فوق الخيال ..نعم .. والمقدرة البشرية على الشرح .. ضد هذا تماماً هي آلام السرطان ..فالتعبير عن الألم ليس كما التعبير عن الفرح.. ولا التعبير عن الحزن .. هو نسيج وحده .. هل تعرفون عندما ينتشر الألم ويعتصر كل خلية في جسمك فيهزها و يحرقها و تشعر أن كل جزء من الخلايا يحترق بل يكوى.. وأن النار تلسع كل جزء من جسدك.. جلدك .. أصابعك تكاد تهرس .. عضلاتك توجعك .. عينيك تحمران و تدمعان .. بؤبوهما يكاد يقتلع من محاجرهما .. رمشيك يشدان و يُيتزعان .. فروة رأسك تتآكل .. أظافرك كأنها تقتلع .... يااااه .. ياله من ألم ، بل يا لها من آلام لا يحدها حد و لا نهاية لها .. لقد وطأت على الجمر .. بل أرض من حديد ساخن .. تمشي عليه .. كانت هذه أولى الجلسات و القادمة لوازم..



و عاد الحبيب المنتظر ..

لم تكتفي جارتي بعنايتها بي وبأطفالي . فما أن علمت بأن زوجي في السودان إلا و قامت بإجراءات دعوة شخصية له و... وسرّعت الإجراءات ليحضر قبل موعد الجلسة الثانية .. إنها امرأة لا يمكن أن تكون إلا ملاكا.. أو إنسان تتملك الإنسانية روحه فيعطي الآخرين بمقدار ما يحمل من حب للناس.

قبل حضور زوجي بدأت الآثار الجانبية للعلاج .. القيء المتواصل، بل وإخراج كل ما في المعدة.. ليس هذا فحسب ، و يصاحب الإخراج آلام فى المعدة و روائح كيمائية .. و لابد أن أستمر في الأكل لتلقى العلاج.. والخروج من حالة فقر الدم الحاد .. ولكن لا شيء يبقى في المعدة .. معادلة صعبة .. والتأثير الأكثر تطرفا هو فقد حاسة الذوق .. وهذه مصيبة ما زلت أعاني منها .. تخيلتم أن لا تتذوقوا طعم الأشياء.. الطاعم والمالح .. والحامض .. والحار .. والبارد .. كله سواء ...

ثم كأن المصائب لا تأتى فرادا أو جماعت .. بل أتت بجيوشها على .. بدأ شعر رأسي يتساقط من جذوره. الأثر لم يكن على وحدى بل أن هذا أثر نفسيا على بنتي " أليسار" فعندما رأت أن شعري بدأ يتساقط كل كتلة مع بعض.. كأنني في أفلام "الزومبى". وما لم يسقط بدأ يتماسك مع بعضه .. يكون أحلافا ضد الانفصال و السقوط ، وبنتي تبكى .. وأصابتها حالة من الهستريا .. وهى تصرخ :" كدا ما حلو .. شكلك ما جميل يا ماما " ..

وفى الثالث والعشرين من الشهر حضر زوجي وفقا لدعوة من جارتي، كان حضوره جزءا من علاجي، وقوة نفسية وبدنية دافعة. كان أول ما فعله هو أن حلق لي بقية شعر رأسي .. وقال لي " كم أنت جميلة"

صبيحة اليوم الثاني ذهبنا للجلسة الثانية ..و تم تركيب جهاز داخل جسمي ، تحت جلد الكتف الأيمن .. وخرجت من هذه الجلسة بوهن شديد وهذيان و ذهول .. و علمت أن هذه الحالة تستمر ستة أيام و بعد عشرة أيام ذهبت للمتابعة و عمل فحوصات للدم فوجدوا أن هناك نقص آخر في كريات الدم البيضاء .. فها هو العلاج يضرب منطقة أخرى وهى النخاع الشوكي ...

و كأن جسدي لم يكتفي بما يكتنفه .. فهاهو العلاج يهدم عمادا آخر ، تأثيره على وظائف النخاع..



مراحل العلاج الصعب..

و كأن جسدي لم يكتفي بما يكتنفه .. فها و العلاج يهدم عمادا آخر..تأثير على وظائف النخاع.. لكن أنّى له.. فأنا بنيان من أعمدة لا تحصى ولا تعد..

نتيجة الفحص كانت نقص حاد في كريات الدم البيضاء ، هذه النتيجة أزعجت الطبيبة فطلبت منى البقاء في المستشفى ليومين فعلى أن استسلم لدواء جديد للنخاع الشوكى و هي حقنة قيمتها 1730 يورو . فتذكرت ماذا لو كنت في السودان ؟ لمت من الإهمال أم من قيمة 7 السبعة حقن..إذن في السودان يموت مرضى السرطان لأنهم لا يتبعون العلاج بهذه الحقن. فالكيميائي يحرق كل الخلايا الحمراء و.. وخلايا السرطان الضارة والنافعة .. فلابد من أن تكون هناك أدوية مرافقة معينة للنخاع.

ولكن أيضا لهذا الدواء آثار جانبية فهو يؤثر على العظام فيوهنها .. ولمدة ثلاثة أيام لم أكن أستطيع السير ولا الحركة .. لا أستطيع وصف شعوري بالعجز.. و نظرات أطفالي وهم ينظرون إلى وأنا أتوكأ على الحائط لأتحرك .. نظرة تقتلني.. وهم لا يعرفون ماذا يحدث .. أي مرض هذا الذي ساقط الشعر و يذهب بالقوى ..ويجعلني أتعلم المشي من جديد ؟

و فوق كل ذلك أوضحت لي الطبيبة أنني ممنوعة من الخروج أو مقابلة أحد من الخارج لأن مناعة الجسد ضعيفة وقد ألتقط أي مرض.. وهذا حرمان لا أطيقه .. حرمان من التواص لو الاتصال ..

و بدأت آثار أخرى .. النوم لساعات طويلة .. تغير العيون و شكلهما في محاجر الرأس .. كنت أنام بقناعة أنني ربما لا اصحي غدا فأنام مودعة الدنيا وأهل بيتي.. لأستقبل صباحا جديدا.. و كلما طال العلاج ، أدركت أن ساعتي قد اقتربت.. ولكن الله مقدر العمر .. وصارت حبوب الكارتزون التي أتعاطاها لعلاج المعدة تؤثر في صحوى .. ونومي .. فزادت ساعات نومي .. لتبعدني عن الناس أكثر وتنقص ساعات حياتي .. و لكن هيهات فساعة جد خير من عشرون فارغة .. لذا قررت أن أعيش حياتي ..

ثم قرأت ما ذكره الصينيون .. من أن هناك علاقة بين الأظافر والشعر .. فعندما بدأت أظافري تتقيح في كل من يدي ورجلي و صارت الرائحة تخرج و خفت على انزعاج الآخرين من الرائحة التي تتجاوزني لتصل للآخرين..

كل هذا وأنا أحاول أن أكون طبيعية بل قوية أمام الذين معي وحولي.. و زوجي هذا الرجل الصابر على مرضي و دوام تعامله معي على أني إنسانة طبيعية ولست على الإطلاق مريضة .. وأطفالي الذين اعتادوا على تطور المرض و ظهور علة جديدة كل فترة .. ثم هذه النتيجة التي خرج بها الصينيون.. وهى وجود علاقة بين المادة المكونة للشعر و الأظافر .. إذن فتساقط الشعر و تساقط الأظافر..مع مصاحبة الأخيرة لرائحة خاصة أثناء الأكل مع الآخرين .. رائحة بشعة لا يتحملها أحد ..

كنت كل هذا الوقت أحافظ على علاقاتي الاجتماعية بالتحرك والتواصل وإن عزّت الحركة فالهاتف وسيلة اتصال وإن استطعت فالسفر و أخيرا كانت الشبكة العالمية ( الانترنت).. وعرفت عالما من المحبة والتواصل..



ja heel goed



وعالم من المحبة و التواصل..



رغم معاناتي كنت أحرص على العيش بعادية خاصة لمن هم حولي و أكثر عادية وتماسكا لمن هم حولي .. أهل بيتي .. كنت أعلم أنّ نصف العلاج في قوتي ونهايتي في خنوعي واستكانتي .. فكنت نموذجا للمريضة القوية في المنطقة و المريضة المثالية في الحي..

كانت الطبيبة تسألني : " كيف حالك؟" .. وتسرع لتجيب نفسها :" ja heel goed " و تعنى هذه أنا بخير جدا .. و هذه " اللزمة" كنت أرددها دوماً .. حتى صار جميع من بالمستشفى يرددونها معي و كلنا نبتسم..

نعم كانت هنالك أوقات مأساوية وسوداء لكنها لم تكن كلها نقمة.. بل نعمة ونغمة .. و كانت محطة من محطات الحياة في رحلتها القصيرة .. فكم من العمر تبقى حتى نضيعه في حزن. فالمرض محطة رئيسة لكنه ليس كل الرحلة..

فيا أصدقائي .. اقول لكم

أنا بخير .. ja heel goed



تجربة الأمراض المصاحبة :

و هنا أود أن اشرح بعض مضاعفات المرض و تجربتي مع الأمراض المصاحبة، لفائدة الجميع عامة و مرضى السرطان وأهلهم خاصة..

في يوم صحوت وقد أصابني نزف دموي حولت إلي المستشفى وبعد الكشف والفحص تبين أنه من البواسير، و مع نقص كريات الدم البيضاء يصبح تجلط الدم مشكلة لأن الصفائح الدموية أصبحت ضعيفة الوظيفة . ومن هنا أرجو أن يدلو أصحاب الاختصاص برأيهم في الأعراض المصاحبة بالإضافة إلى الأمراض التي تصيب مريض السرطان . حتى تعم الفائدة خاصة بعد انتشار هذا المرض و تعدد أنواعه وعدم معرفته أو معرفة علاج له .

وأنا أقدر أصحاب الاختصاص ولكن تجربتي و ملازمة هذا المرض لي جعلني من المجربات وأضاف لحياتي بعدا للبحث و الاستفادة وإفادة الناس. فقد أصبح المرض من أصدقائي المقربين ورفيق بقية العمر .. علمني الصبر و تحمل المكاره والأذى و أعطاني فرصة لإثبات قوتي و أصبحت اهتماماتي في الحياة أكبر و لا ألتفت للصغائر و لكني لا أنسى الأشياء الصغيرة .. فالحياة جميلة وقصيرة فلن أدعها تقرفني بل ستصطحبني بمُرها وحلوها كأجمل ما يكون الرفيق.. فهناك من ينتظر صحوي و أنسى و حياتي ، من ينتظر الفطور و غسيل الملابس و ساندويتش الفطور و من ينتظر أن أبتسم وأن يخدمني .. هناك من يحب أن يدللني و من يحب أن يتكئ علي كتفه وهمه .. ومن ينتظر مني حكمة ..

هناك من ينتظر أن أسأله خدمة أو يقدم لى الحنو والعاطفة دون سؤال

هناك من ينتظرني كل صباح على أمل أن أشفى ..

هناك مودة ورحمة و قدوة و احترام، و هناك من يوقرني و ويقول لي : " ماما ..صباح الخير .. و ماما تصبحي بخير .. وماما هل أنت بخير؟ " إذن هناك كل الخير ..

عرفت كيف يعزني الناس و علمت اهتمامهم الزائد ..



تجربة العلاج اللإشعاعي ..



العلاج الإشعاعي هو تسليط أشعة ( غير مرئية) على منطقة الثدي و الإبط الأيسر ( مناطق السرطان) لقتل كل الخلايا السرطانية والتي يحتمل ألا تكون قد زالت بالعملية الجراحية أو العلاج الكيميائي.. هنا يدخل العلاج الإشعاعي ليقضى على أي احتمال لخلايا مصابة .

كنت أذهب للعلاج في منطقة أخرى تبعد ربع ساعة بالسيارة و هو علاج لمدة 25 يوما متواصلة . أرهقت فيها المرافقين والمتابعين . ولكنهم ظلوا على فرح و أن المشوار رحلة جميلة . هذا الزوج يعطيني دائما وهو فرح بعطائه..



تجربة العلاج الهرموني ..

وهو فرح بعطائه.. انتقلنا إلي مرحلة العلاج الهرموني .. وهو علاج عن طريق الحبوب . وهي حبوب ال (NOLVADEX ) ووظيفتها العمل على تصميت الخلايا الغير طبيعية التي تنمو. وعلى ما أظن أن الخلل الذي يسبب السرطان يظل قائما حتى لو تناولت العلاج.



تجربة الآثار الجانبية للعلاجات المختلفة ..

لهذا المرض آثار جانبية على المريض وعلى الذين من حوله إدراكها و ربما تختلف من مريض لآخر ولذا سأحكي عن تجربتي الشخصية .

للعلاج الكيميائي تأثير على الذاكرة فأنا لا أتذكر بشكل جلي كل الأحداث خاصة أيام الجرعات وما يليها ولكني لم أفقد ذاكرة الأشياء الجميلة والناس الجميلة.

كما يصاحب العلاج الكيميائي آلام يومية في الأرجل والكتفين .

فإزالة الثدي ينتج معها تغير توازن الجسم .

و ذكرت من قبل أن فقد حاسة التذوق و ليس الذوق طبعا .. وحاسة التذوق هذه فقدتها منذ مدة طويلة .. ألا رحم الله أيام الطعم و الاشتهاء ..

و من الأعراض الجانبية تورم اليد اليسرى لعد وجود خط دفاع بسبب إزالة الغد الليمفاوية .. مما ترتب عنه المعالجة الطبيعية بالتدليك مرتين في الأسبوع .. فكأني أناوب في المستشفى .. و في جميع أقسامه .. ولمدة تسعة أشهر ما زلت أواصل هذا التدليك الطبيعي ولا أدرى متى يرتاح المدلك وترتاح يداي .

كما أن هنالك كشف دوري لمدة سنتين لمتابعة عمل الجهاز المزروع داخل كتفي و نظافته و هناك كشف و فحص شهري للدم

هذا المرض صديقي .. عرفته رفيقا لي لا أحبه ولكن يجب أن أعتاد على وجوده .. فقد جعل لحياتي معنى و أثراها بالتجارب و الأصدقاء .. وشفافية الروح والتواصل ..مع النفس والغير و ملهم استمد منه وحي وإيحاء حياتي الجميلة وأيامي الرائعات القادمات ..

هذه تجربتي عبرة وليس للتأسي والشفقة .......فسردي لتجربة حتى أساهم في توصيل معلومات تساعد الغير بشكل او باخر وذلك للفهم المغلوط لهذا المرض .

العدد الثاني

أكتوبر2007










معاناة متفردة



إيمان محمد حسين

__________________________



قيمة الإنسان تأتى من عمق وصعوبة تجاربه .. و مدى استفادته منها .. ولكلٍ مِنّا تجربة بطعمها المتفرد .. و حوادثها المتغيرة .. فكلما كثرت التجارب تنوع الطعم .. و توسعت الحديقة .. وكلما تغيرت الأحداث جاءت القوالب غير الآخرين .. وسرد هذه الأحداث يفيد الآخرين حتى تضاف إلي تجاربهم دون أن يعانوا معاناة الآخرين.



سأحكيكم قصتي.. بصدق وتجرد .. ولكني أطلب منكم أن تتجردوا أولاً من ذلك المعنى الإنساني الشفيف الذي يسمى الشفقة أو العطف ، أو ضعوه جانباً قليلاً ، فهنا نحتاج أن نتابع لنتعلم.. فلا أطلب منكم شفقة .. أطلب منكم الاستفادة من تجربتي .. فهي حياتي اليومية تآلفت معها.. فصارت جزءا من حياتي، بل كل حياتي .. لم أعرف غيرها سنين عددا.. ولا أعرف كيف سأعيش بدونها ولا غيرها.. لكني أدرك تماماً أنِّي بهذا الأمر قوية و أعيش حياتي ككل فرد ، غير أنّ بعض الأوقات برنامج حياتي مختلف عن الآخرين .. فأنا أقضى نصف نهاري في المستشفيات.. لست متفردة في هذا المرض ولكني جعلت هذا المرض جزءا من حياتي اليومية وتعايشت معه كرفيق الزمن فانا قد ابتليت، (والمؤمن مصاب)، بأي مقياس للحياة و بكل معيار لأنواع المصائب قد كانت مصيبتي أن أصاب بسرطان الثدي ، و أعيش معه .

إصابتي ليست مصيبة .. هي قدري، ولكن ما يحُز في النفس هو وجودي مع ثلاثة أطفال في بلاد بعيدة مختلفة قوانين حياتها عن عادات ومنهاج بلادي.. في ظروف عيشها و معيشتنا فيها مختلف جدا .. أفادني من ناحية علاجية .. و لكن يزيد آلامي أن إيقاع يومي صار مختلف أيضاً.. مما يجعل هذه الأسرة تعيش ظرف مختلف. فهي تعيش معي حرب على عدو مجهول المصدر .. مجهول أسلحة حربه و مجهول نقاط ضعفه.. فالحرب تكتيك .. وكانت استراجيتى معه هي التحصن ضده .. حتى أعرف إجابة على أسلحته أو أفضل الدفاعات ضده.. و أن لا تؤثر حربي ضده سلباً على من هم حولي ..

علمت من طول الحرب ضده أن أول خطوة في استراجية الحرب أن ( أعرف عدوك) ..

فبدأت البحث في كل كتاب و شبكة وكل جُحر و حَجًر .. وحِجر .. عن كل ما يخص هذا المرض. فما هو السرطان ؟

كيف يمكن التعايش معه ؟

والعلاج منه !!! وآثار العلاج منه .......

يعلم الجميع أن مصاب السرطان في السودان، يُجهّز له الكفن وهو يتلقى العلاج..

و قد تبدأ سرطان الحرب النفسية - التي هي أصعب من سرطان الجسد - أمام المريض أو خلفه .. في عيونهم أو دموعهم أو مفرداتهم .. " حرام يا يمه كِمِلت من العضمة التسند الحيل " ..." شفتي الشعر !! ولاّ الشعر ..وووب علي .. ولا شعرة واحدة في رأسها ما في" . . وتبدأ أنت في التناقص و التآكل " ." وتموت قبل يومك " وربما تتوفر لك إمكانية السفر للعلاج بالخارج .. حينها ، ربما يكون قد كتب لك أن تعيش عمرك .. من جديد .. .........................



البداية.. رحلة تبدأ بحلم وتنتهي بواقع.. ..



كنت قد أكملت دراسة دبلوم القانون في لبنان .. و قد انتهت إقامتي كطالبة دراسات .. و طلبت منا السلطات اللبنانية المغادرة فوراً .. كان معي زوجي و طفلاي .. يحزمون أمرهم وحقائبهم للسفر للسودان .. كنت كمن لا يأبه ، في ظل ذلك النظام الذي أنشب مخالبه على كل ما هو جميل .. فتردى كل قائم حتى صارت مهنة القانون مهنة ممتهنة ومهانة .. فلأحلم ببلد آمن ، يحترم إنسانيتي حتى يقضي الله أمرا ..



- الحلم والإشارة:

من يصدق ؟ لقد حلمت ذاك اليوم أنى أسافر إلى أوربا عن طريق تركيا .. إذ أنه الطريق الوحيد لأوربا للمهاجرين حينها. رأيتني في الحلم أبذل جهدا جبارا حتى أصل الي هناك .. صحوت وأخبرت زوجي بحلمي فضحك قائلا :"أنت مجنونة " ..".. بطلي التخاريف بتاعتك دي " ..

و للمصادفة وحتى تكتمل القدر دورته حضر صديق زوجي ليودعنا لأنه اختار أن يسافر إلى أوربا عن " طريق الموت". فقلت له مباشرة .. دون تردد "سأسافر معك .."

رد على قائلا يا بنت الناس .. أنا لا اضمن طريقي .. و هذه مسئولية إضافية ..ولن أتحمل مسئوليتك .."

قلت له " لقد حزمت أمري منذ الحلم وسأجعله حقيقة .. هو ليس حلما .. هو إشارة .." والله يحفظني و يحفظك حتى نصل..

حاول كثيرا إقناعي بأني أقرب إلى السفر عن طريق الفيزا و قد قدمت طلبا لزيارة باريس و قدمت طلبت التأشيرة والنتيجة في ديسمبر.. كيف لي أن انتظر ؟ ومن يسليني بالصبر. وكيف لى ذلك الإشارة قد جاءتني اليوم... جميعهم حاولوا إقناعى بأن أتحلى بالصبر ..ولكني اكتسيت بالإشارة واكتفيت بها ..

لما كان الأمر كما أردت .. كان زوجي هو مشجعى و هو الذي دفعني .. هذا الإنسان رائع و محبا .. هل كان دافعه الخوف والحب أولا و الثقة فينى و إيمانه بقراراتي ثانيا ..

و هكذا قررنا السفر .. و قلت لرفقاء الدرب .. أنا جاهزة .. و اتفقنا مع مهربين .. بالسفر عن طريق سوريا ثم تركيا ثم اليونان أو إيطاليا ..

قضينا أيامنا الأخيرة كأننا ذاهبان لنزهة و سنلتقي وأحيانا كأننا سنفترق العمر كله ..

وجاءت ساعة التنفيذ .. علينا أن لا نحمل أوراقا ثبوتية فقط بعض المال والزاد والعزيمة ..

و بدأت الرحلة الي الحدود مع سوريا بسيارة ( BMW ) . ثم دخلنا إلى سوريا على ظهر الخيل بالسير داخل نهر صغير وأحيانا على شاطئيه .. أخذتنا السيارة إلى جبال الأناضول .. اسم سمعته في حصة الجغرافيا ، حفظته لوقع حروفه .. ولكني للحظة ما كنت أظنني سأمر عليها سيرا على الأقدام مع مرشد لا يعرف من العربية إلا كلمة ( يلا) ليحثنا على المشي .. ساعة من السير السريع ثم والاستراحة في مخابئ معروفة لمدة عشرة دقائق ثم مواصلة السير .. شطبت مفردات من قاموسنا .. هي عطشان. . تعبت .. انتظروني .. الإرهاق.. جرحت .. " .. خفف عنا ألم الرحلة بعض النكات والتهكم بذلك ذلك الخلط في اللغة بين التركية والعربية .. ولغة الإشارة المشتركة حتى .. في الخامسة صباحا .. إلى الحدود السورية التركية ..

وصلنا بيت أحد المهربين الأتراك، حيث مكثنا حتى المساء.. وجدنا المنزل ممتلئا بالهاربين مثلنا إلى عوالم مجهولة. سودانيون ، مصريون عراقيون وأحباش و فلبينيون و من سيريلانكا يرحلون هربا من الفقر والساسة الفاسدون والقتلة . يرحلون لمستقبل مجهول أفضل من حاضر آسن . كنا ستين فردا أو يزيد. أيها العالم الأول جاءتك جحافل العالم الثالث..

من هنا .. في تركيا تغير الأمر .. كنا كسياح .. السفر بالحافلة المكيّفة إلى اسطنبول .. ثم إلى البحر .. واتصلت على زوجي .. ليدفع ..

وهنا على أن أشرح آليات الضمان. الضمان هو أنك كل مرحلة تصل يدفع الممول في بلدك مبلغا ، تتصل و يطمئن عليك وعلى وصولك ، فيذهب "للوكالة" ويدفع المرحلة القادمة .. منتهى الدقة التنظيم. وزوجي كان هو من يدفع ثمن مغامرتي..

وصلنا الى انطاكية و من ثم ذهبنا إلى بحر ايجة .. ووجدنا المركب التي ستقلنا إلى اليونان ..

لما رأيت الزورق .. أجفل قلبي هلعا ، خفت من الزورق .. أصابني شعور مفاجئ بالخوف والتردد . قلت في نفسي " يا بنت .. تابعت حلمك والإشارة فوصلت سالمة .. اذن تابعي حدسك ولا تركبي هذا الزورق" .. كان زورق صيد تركي عادى سيسلمنا إلى زورق صيد يوناني .. ليقلنا إلى اليونان وعندما تكون هناك تكون أصعب المراحل قد انقضت .. كان يجب أنم نبقى داخل القبو فى مركب الصيد وفى عرض البحر أو فى جزيرة ما يتم التبادل بين الزوارق .. .كذا كنت أظن .. داخل المركب كان يجب أن نبقى داخل صناديق الأسماك الكبيرة أو في القبو ..

رفيقتي العراقية بأطفالها رفضت السفر أيضا .. صعد إلى المركب 9 سودانيون و 3 أثيوبيات و اثنان من الأفغان و 9 آخرين من جنسيات مختلفة ..

انتظرنا المركب التالية ولكن بعد يومين سمعنا بغرق المركب ونجاة اثنين من السودانيين و الأفغان وسيرلانكية وغرق البقية بما فيهم طاقم المركب .. و لم تخرج الجثث من داخل صناديق الصيد ، وكأنها بيرل هاربر، الفرق أنّ هؤلاء ماتوا "ساى سمبلة .."

هنا كانت نقطة تحول .. أواصل السفر .. أم الرجوع ؟ ..

ما أصعب السفر و أخطر الرحلة وما أحلى الرجوع إليه .. و ما أجمل الحلم ..

و كان هذا العناد الذي يحرك عقلي والدافع المحرك للسفر و كل هذا المشوار ..

طلبت مقابلة الرأس المدير المدبر لعملية الترحيل لهذه العملية .

لا أحد يقابل المدير .. قالوا لى

ولكن إصراري و ضعف موقفهم بعد غرق المركب سهّل لي مقابلته، فالتقيت به..شرحت له أن هذه مغامرة لم نتفق عليها ولن أركب زورقا إلا و فيه كل ضمانات السلامة ..

قال لي: يمكنك الرجوع .. قلت له " لا بل أريد أن أواصل الرحلة.. لكن بمركب جديد و أن يكون ذلك قبل حلول الشتاء ".. فالشتاء ممطر وقارص البرد وخطر في رحلة التهريب.. و توصلنا إلى أن هناك زورقا جديدا سوف يكتمل بناءه و لضمان وصولنا واستمرار عملية التهريب. و فعلا تم بناء مركب جديد ..

وبدأت مرحلة ثانية ..



مزيد من الوعثاء .. كثير من الأحمال ..



كأنما غرق الزورق .. و فقدي لرفاق السفر و موتهم بهذه الطريقة البشعة .. ثم رجوعي مرة أخرى إلى اسطنبول ..كأن كل هذه إشارات و دلائل للعودة و ترك فكرة السفر .... وزاد الطينة بِلّة أن قد شعرت بغثيان أعرفه تماماً ..و تعرفه كل النساء .. فقد علمت أنّي حامل وقد أودع زوجي في أحشائي رفيق سفر .. بضعة منه ترافقني و بضع منه في قلبي و مضغة في أحشائي.. كأنه يذكرني به ..

هذا الجنين الجديد جعلني أفكر في مستقبل أفضل لأبنائي. والآن تزداد المسئولية ..

وأنا في ترددي هذا جاءني أن المركب الجديدة قد أعدت ، فحسمت أمري على مواصلة الرحلة ، فسافرت ومعي اثنان من الأتراك إلى جزيرة ( متالينى) وهى جزيرة متصارع عليها بين الأتراك واليونانيين و يسكنها فقط كبار السن وكلابهم ..وعند وصولي هناك تبينت ما أنا فيه .. فد كنت الشامة على خد أبيض . فوجود أي شخص غريب يكون معروفا، دعك من امرأة سمراء تسحب أطفالها.. في جزيرة محاطة تماما بالحرس والجنود والماء.. فلا سبيل إلي الخروج منها إلا بالطرق القانونية.. قلت إذن ما دام الأمر كذلك فنلقى في جوفنا لقيمات و لننتظر الفرج أو الحيلة .

ذهبنا إلى مطعم ماكدونالد و أكلنا حد الشبع .. شبع لا ندرى ماذا بعده .. ثم بدأنا في التسلل في الطرقات لنصل إلى السفينة ولكن صادفنا رجل شرطة.. وأوقفنا .. لحسن الحظ كانت اللغة الانجليزية هي لغة التواصل ..أخذنا معه إلي مركز الشرطة. وهناك ذكرت لهم أنى مسافرة من جيبوتي إلى أثينا وأنزلتني السفينة هنا وأخبروني أن هذه ايطالي" .. قالوا لي لقد خدعوك فأنت في ( متالينى).. وأثينا تبعد 19 ساعة من هنا. فلابد أن تذهبي إلى رئاسة الشرطة ( The Centre) فوجودك هنا غير شرعي" و شعرت بتعاطف منهم وعلمت أنني أول امرأة تهاجر عن هذا الطريق..

صادف ذلك اليوم عيد ميلادي ... بنتي " اليسار" أحضرت جاتوه واحتفلنا مع حرس الحدود .. ثم أخذوني إلى معسكر مقفول حيث وجدت مائتين و خمسة وثلاثين شخصا بينهم سبعة سودانيين.. و أنا المرأة الوحيدة بينهم.

في الصبح ومن آثار السفر والتعب .. أصبت بحالة إغماء كامل، فتم نقلي إلى المستشفى حيث تبين أنني أعانى من فقر دم حاد.. و أقرب معمل لفحص الدم كان يبعد ثماني عشرة ساعة..

لما علم عمدة المدينة بوجود امرأة فى المعسكر جاء لزيارته وطلب مقابلتي ، ومن النقاش علم أني أدرس القانون وكان هو أيضا من خريجي القانون فكان ذلك دهشة له ..

و بعد أسبوع من التنقل بين المستشفى والمعسكر جاءت النتيجة ..

" يا مدام أنت مصابة بفقر دم حاد ..و ربما مصابة بمرض بلازما الدم .. وهو خطر على الجنين .. فلابد من عملية إجهاض" .. .. هكذا علمت بمرضي أو قل أمراضي و معها .. أنى سأفقد جنيني .. أحدى أقوى علاقاتي بزوجي في ساعات وحدتي .. وافقت مرغمة .. هذا جنيني و تميمتي من زوجي .. ولكن لابد مما لابد منه بد . ثلاث مرات يدخلونني إلى العملية ولكن طبيب المنطقة يرفض إجراء العملية.. فالإجهاض ممنوع هناك .. بأمر الكنيسة .. وهم متشددون كنسيا ..



سبحان مغير الأحوال ..



قررت السلطات نقلى إلى أثينا لمقابلة أخصائي .. يا للأقدار .. فكأن ما كنت أحسبه عائقا للوصول إلي أثينا يتحول سببا لدخولها .. و هذه المرة سافرت راكبة شرعية ( فلنقل شبه شرعية ..فأنا لا أحمل جواز سفر ).. بل و على متن سفينة من ثلاث طبقات .. بها حوض سباحة ومراقص و كل الفخامة السياحية.. وتذكرت بداية الرحلة بالأرجل وثم على ظهور الجياد و الحافلات و تهريبي كبضاعة على مركب الصيد ..

ووصلت إلى أثينا .. لا أحمل جواز سفر.. لكنى أحمل هم الرحلة وطفلة في يدي و أخرى على حجري و جنين في أحشائي وبلازما مريضة في دمى و هموم أثقل من هؤلاء جميعا..

التقيت بسودانيين في اليونان عرضوا على خدماتهم ، ولكن عند موافقتي يظهر الوجه القبيح لبعض سوداني المهجر .. علي أن أدفع مبالغ كبيرة دون ضمانات.. وقلت لهم .." الحاضر يكلّم الغايب .. إيمان تقول لكم .. لا أريد مساعدة من أحد منكم.. فلا أظن المشوار القادم سيكون أسوأ من الفائت"

اتصلت بزوجي وأخبرته بعنواني الجديد فأرسل لي جواز سفري بالبريد السريع .. ويا للمفاجأة ..

عليه تأشيرة فيزا إلى باريس .. يبدو أن الأمور تتحسن .. فلم أعد مهاجرة غير شرعية .. و بدأت أفكر أين سيطيب لي المقام .. ؟ لا يهم الآن على أن أرتاح قليلا وأبدأ باقي المشوار و أستعين بخارطة الأمل لبقية الرحلة. ..

أيها الغرب الأوربي .. جاءتك إيمان تحمل حلمها و أطفالها و جنينها و تعبها.. فأين فيك المستقر .. وأين البيت والوطن الجديد.. فإيمان لا تذهب إلى منفى فكل الأرض أرض الله .. أنا آتية .. أنا قادمة ..

نحن قادمون ..



أوربا .. الخيار والاختيار.. ختام الرحلة و بداية المقام ..

بدأت رحلتي داخل أوربا و هذه المرة أحمل فيزا الدخول إلي فرنسا .. سأركب ما أستطيع .. و أسافر على متن القطارات جاسة أمد رجلي ما استطعت ..أمشى في الطرقات وآكل في الأسواق على عينك يا شرطي أوربا.. كان خيار السفر على القطار.. ففي القطار فسحة للتفكير و معرفة بالبلاد وأهلها ..وقلة في المصروفات .. ربما لا تتاح لي رؤية هذه الأماكن مرة أخرى .. و ركوب القطار بالنسبة لرحلتي السابقة يعد رفاهية .

قلت فلأجرب اللجوء إلى إيطاليا .. كل من التقيت بهم من أغراب و معارف لم يشجعوني على البقاء فيها ، فهي لن تكون بديلا لوطن .. وستكون المعاناة أكبر .. والحصول على اللجوء ليس سهلا .. قضيت بعضا الزمان فيها أدرس بنفسي الوضع هناك ، فكان قراري أن أرحل إلى فرنسا، فلتك

khalid

المساهمات : 17
تاريخ التسجيل : 01/07/2010

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى